فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)}.
تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما تضمنه قوله: {فكَفرُوا به} [الصافات 170] وبيان لبعض الوعيد الذي في قوله: {فسوف يعلمون} [الصافات 170] بمنزلة بدل البعض من الكل ولكنه غلب عليه جانب التسلية فعطف بالواو عطف القصة على القصة.
والكلمة مراد بها الكلامُ، عبر عن الكلام بكلمة إشارة إلى أنه منتظم في معنى واحد دال على المقصود دلالة سريعة فشبه بالكلمة الواحدة في سرعة الدلالة وإيجاز اللفظ كقوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100] وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل»
وبُينت الكلمة بجملة {إنَّهم لهم المنصُورُونَ} أي الكلام المتضمن وعدهم بأن ينصرهم الله على الذين كذبوهم وعادَوهم وهذه بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم عقب تسليته لأنه داخل في عموم المرسلين.
وعطف {وإنَّ جُندنا لهم الغالِبُونَ} بشارة للمؤمنين فإن المؤمنين جند الله، أي أنصاره لأنهم نصروا دينه وتلقوا كلامه، كما سموا حزب الله في قوله: {كتب اللَّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللَّه قوي عزيز} [المجادلة: 21] إلى قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أولئك حزب اللَّه ألا إن حزب اللَّه هم المفلحون} [المجادلة: 22].
وقوله: {لهُمُ الغالِبُونَ} يشمل علوّهم على عدوّهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوّهم عليهم في الآخرة كما قال تعالى: {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} [البقرة: 212] فهو من استعمال {الغالِبُونَ} في حقيقته ومجازه.
ومعنى {المنصُورون} و{الغالِبُونَ} في أكثر الأحوال وباعتبار العاقبة، فلا ينافي أنهم يُغلبون نادرًا ثم تكون لهم العاقبة، أو المراد النصر والغلبة الموعود بهما قريبًا وهما ما كان يوم بدر.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)}.
هذا مفرع على التسلية التي تضمنها قوله: {ولقد سبقَتْ كلِمتُنا} [الصافات 171].
والتولي حقيقته: المفارقة كما تقدم في قصة إبراهيم {فتولَّوا عنه مُدبرين} [الصافات 90]، واستعمل هنا مجازًا في عدم الاهتمام بما يقولونه وترك النكد من إعراضهم.
والحين: الوقت.
وأجمل هنا إيماء إلى تقليله، أي تقريبه، فالتنكير للتحقير المعنوي وهو التقليل.
ومعنى {أبصرهم} انظر إليهم، أي من الآن، وعدّي أبصر إلى ضميرهم الدال على ذواتهم، وليس المراد النظر إلى ذواتهم لكن إلى أحوالهم، أي تأملْ أحوالهم ترَ كيف ننصرك عليهم، وهذا وعيد بما حلّ بهم يوم بدر.
وحذف ما يتعلق به الإِبصار من حال أو مفعول معه بتقدير: وأبصرهم مأسورين مقتولين، أو وأبصرهم وما يُقضى به عليهم من أسر وقتل لدلالة ما تقدم من قوله: {إنَّهُم لهمُ المنصُورون وإن جُندنا لهم الغالِبُونَ} [الصافات 172، 173] عليه، إذ ليس المأمور به أيضًا ذواتهم، وهذا من دلالة الاقتضاء.
وصيغة الأمر في {وأبْصرهُم} مستعملة في الإِرشاد على حد قول:
إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ ** فدعه وواكل أمره واللياليا

أي إذا شئت أن تتحقق قرارة حاله فانتظره.
وعبر عن ترتب نزول الوعيد بهم بفعل الإِبصار للدلالة على أن ما توعدوا به واقع لا محالة وأنه قريب حتى أن الموعود بالنصر يتشوف إلى حلوله فكان ذلك كناية عن تحققه وقربه لأن تحديق البصر لا يكون إلا إلى شيء أشرف على الحلول.
وتفريع {فسوف يبصرون} على {وأبصرهم} تفريع لإِنذارهم بوعيد قريب على بشارة النبي بقربه فإن ذلك المبصر يَسرّ النبي صلى الله عليه وسلم ويحزن أعداءه، ففي الكلام اكتفاء، كأنه قيل: أبصرهم وما يَنزل بهم فسوف تُبصر ما وعدناك وليُبصروا ما ينزل بهم فسوف يبصرونه.
وحذف مفعول {يُبصرون} لدلالة ما دلت عليه دلالة الاقتضاء.
واعلم أن تفريع {فسوف يُبصرون} على {وأبصرهم} يمنع من إرادة أن يكون المعنى: وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب بعد ذلك الحين كما لا يخفى.
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)}.
هذا تفريع على التأجيل المذكور في قوله: {حتى حينٍ} [الصافات 174] فإن ذلك ما أنذرهم بعذاب يحلّ بهم تُوقع أنهم سيقولون على سبيل الاستهزاء أَرنا العذاب الذي تُخوفنا به وعجِّله لنا.
وبعض المفسرين ذكر أنهم قالوه فلوحظ ذلك وفرع عليه استفهام تعجيبي من استعجالهم ما في تأخيره والنظرة به رأفة بهم واستبقاء لهم حينًا.
والفاء في قوله: {فإذَا نزل بساحتهم} فاء الفصيحة، أي إن كانوا يستعجلون بالعذاب فإذا نزل بهم فبئس وقت نزوله.
وإسناد النزول إلى العذاب وجعله في ساحتهم استعارة تمثيلية مكنية، شبهت هيئة حصول العذاب لهم بعد ما أُنذروا به فلم يعبأوا بهيئة نزول جيش عدوّ في ساحتهم بعد أن أنذرهم به النذير العريان فلم يأخذوا أُهبتهم حتى أناخ بهم.
وذكر الصباح لأنه من علائق الهيئة المشبه بها فإن شأن الغارة أن تكون في الصباح ولذلك كان نذير المجيء بغارة عدوّ ينادي: يا صباحاه نداء ندبة وتفجع.
ولذلك جعل جواب {إذا} قوله: {فَسَاءَ صباحُ المُنذَرِينَ} أي بئس الصباح صباحهم.
وفي وصفهم ب {المُنْذَرِينَ} ترشيح للتمثيل وتورية في اللفظ لأن المشبهين منذرون من الله بالعذاب.
والذين يسوء صباحهم عند الغارة هم المهزومون فكأنه قيل: فإذا نزل بساحتهم كانوا مغلوبين.
وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه في التشبيه بأن يشبه العذاب بالجيش، وحلوله بهم بنزول الجيش بساحة قوم وما يلحقهم من ضر العذاب بضر الهزيمة، ووقت نزول العذاببِ بهم بتصبيح العدوّ محلة قوم.
قال في الكشاف: وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تُحِس بها ويروقُك موردها على نفسك وطبعِك إلاّ لمجيئها على طريقة التمثيل.
واعلم أن في اختيار هذا التمثيل البديع معنى بديعًا من الإِيماء إلى أن العذاب الذي وُعِدوه هو ما أصابهم يوم بدر من قَتل وأسر على طريقة التورية.
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)}.
عطف على جملة {فإذا نزل بساحتهم} [الصافات 177] الآية لأن معنى المعطوف عليها الوعد بأن الله سينتقم منهم فعطف عليه أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يهتمّ بعنادهم.
وهذه نظير التي سبقتها المفرعة بالفاء فلذلك يحصل منها تأكيد نظيرتها، على أنه قد يكون هذا التولّي غيرَ الأول وإلى حينٍ آخرَ وإبصارٍ آخر، فالظاهر أنه توَلَ عمن يبقى من المشركين بعد حلول العذاب الذي استُعجلوه، فيحتمل أن يكون حينًا من أوقات الدنيا فهو إنذار بفتح مكة.
ويحتمل أن يكون إلى حين من أحيان الآخرة، وإنما جعل ذلك غاية لتولي النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لأن توليه العذاب عنهم غاية لتولي النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لأن توليه عنهم مستمر إلى يوم القيامة فإن مدة لحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لما كانت متصلة بتوليه عنهم جعلت تلك المدة كأنها ظرف للتولي ينتهي بحين إحضارهم للعقاب، فيكون قوله: {حتى حِيْنَ} مرادًا به الأبد.
وحذف مفعول {وأبصر} في هذه الآية لدلالة ما في نظيرها عليه.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)}.
خطاب النبي صلى الله عليه وسلم تذييلًا لخطابه المبتدأ بقوله تعالى: {فاستفتهم ألربك البنات} [الصافات 149] الآية.
فإنه خلاصة جامعة لما حوته من تنزيه الله وتأييده رسله.
وهذه الآية فذلكة لما احتوت عليه السورة من الأغراض جمعت تنزيه الله والثناء على الرسل والملائكة وحمد الله على ما سبق ذكره من نعمة على المسلمين من هدى ونصر وفوز بالنعيم المقيم.
وهذه المقاصد الثلاثة هي أصول كمال النفوس في العاجل والآجل، لأن معرفة الله تعالى بما يليق به تنقذ النفس من الوقوع في مهاوي الجهالة المفضية إلى الضلالة فسوءِ الحالة.
وإنما يتم ذلك بتنزيهه عما لا يليق به.
فأشار قوله: {سبحان ربِّكَ} الخ إلى تنزيهه، وأشار وصف {رَبّ العِزَّة} إلى التوصيف بصفات الكمال، فإن العزة تجمع الصفاتتِ النفسية وصفاتتِ المعاني والمعنوية لأن الربوبية هي كمال الاستغناء عن الغير، ولما كانت النفوس وإن تفاوتت في مراتب الكمال لا تسلم من نقص أو حيرة كانت في حاجة إلى مرشدين يبلغونها مراتب الكمال بإرشاد الله تعالى وذلك بواسطة الرسل إلى الناس وبواسطة المبلغين من الملائكة إلى الرسل.
وكانت غاية ذلك هي بلوغ الكمال في الدنيا والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة.
وتلك نعمة تستوجب على الناس حمد الله تعالى على ذلك لأن الحمد يقتضي اتصاف المحمود بالفضائل وإنعامَه بالفواضل وأعظمُها نعمة الهداية بواسطة الرسل فهم المبلغون إرشاد الله إلى الخلق.
و{رَبّ} هنا بمعنى: مالك.
ومعنى كونه تعالى مالك العزة: أنه منفرد بالعزة الحقيقية وهي العزة التي لا يشوبها افتقار، فإضافة {رَبّ} إلى {العِزَّةِ} على معنى لام الاختصاص كما يقال: صاحب صِدق، لمن اختص بالصدق وكان عريقًا فيه.
وفي الانتقال من الآيات السابقة إلى التسبيح والتسليم إيذان بانتهاء السورة على طريقة براعة الختم مع كونها من جوامع الكلم.
والتعريف في {العِزَّةِ} كالتعريف في {الحمد} هو تعريف الجنس فيقتضي انفراده تعالى به لأن ما يثبت لغيره من ذلك الجنس كالعَدم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وتنكير {سلام} للتعظيم.
ووصف {المُرْسَلِينَ} يشمل الأنبياء والملائكة فإن الملائكة مُرسلون فيما يقومون به من تنفيذ أمر الله.
روى القرطبي في تفسيره بسنده إلى يحيى بن يحيى التميمي النيسابُوري إلى أبي سعيد الخدْري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول آخر صلاته أو حينَ ينصرف: {سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون وسلامٌ على المُرسلينَ}.
ومن المروي عن علي بن أبي طالب «مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخرَ مجلسه حينَ يريد أن يقوم {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} إلى آخر السورة، وفي بعض أسانيده أنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح». اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون}.
والاستفتاء السؤال، وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ، على قولهم على الله البهتان وجعلهم البنات لله تعالى عن ذلك وأمره بتوقيفهم على جهة التوبيخ أيضًا هل شاهدوا أن الملائكة إناث فيصح لهم القول به، ثم أخبر تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الإفك والكذب إلى أن قالت ولد الله الملائكة لأنه نكح في سروات الجن وهذه فرقة من بني مدلج فيما روي، وقرأ جمهور الناس {اصطفى} بالهمز وهو ألف الاستفهام وهذا على جهة التقرير والتوبيخ على نسبتهم إليه اختيار الأدنى عندهم، وقرأ نافع في رواية إسماعيل عنه {اصطفى} بصلة الألف على الخبر كأنه يحكي شنيع قولهم، ورواها إسماعيل عن أبي جعفر وشيبة، ثم قرر ووبخ وعرض للتذكر والنظر واستفهم عن البرهان والحجة على جهة التقرير وضمهم الاستظهار بكتاب أو أمر يظهر صدقهم، وقرأ الجمهور {أفلا تذّكّرون} مشددة الذال والكاف، وقرأ طلحة بن مصرف {تذْكُرون} بسكون الذال وضم الكاف خفيفة.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)}.
الضمير في قوله: {وجعلوا} لفرقة من كفار قريش والعرب، قال ابن عباس في كتاب الطبري إن بعضهم قال إن الله تعالى وإبليس أخوان، وقال مجاهد: قال قوم لأبي بكر الصديق: إن الله تعالى نكح في سروات الجن، وقال بعضهم إن الملائكة بناته، ف {الجنة} على هذا القول الأخير يقع على الملائكة سميت بذلك لأنها مستجنة أي مستترة، وقوله تعالى: {ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون} من جعل الجنة الشياطين جعل العلامة في {علمت} لها، والضمير في {إنهم} عائد عليهم أي جعلوا الشياطين بنسب من الله والشياطين تعلم ضد ذلك من أنها ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه، ومن جعل الجنة الملائكة جعل الضمير في {إنهم} للقائلين هذه المقالة أي علمت الملائكة أن هؤلاء الكفرة سيحضرون ثواب الله وعقابه وقد يتداخل هذان القولان، ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الناس ولا يليق به، ومن هذا استثنى العباد المخلصين لأنهم يصفونه بصفاته العلى، وقالت فرقة استثناهم من قوله: {إنهم لمحضرون}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يصح على قول من رأى الجنة الملائكة، وقوله تعالى: {فإنكم وما تعبدون} بمعنى قل لهم يا محمد إنكم وإصنامكم ما أنتم بمضلين أحدًا بسببها، وعليها الأمر سبق عليه القضاء وضمه القدر، بأنه يصلى الجحيم في الآخرة، وليس عليكم إضلال من هدى الله تعالى، وقالت فرقة {عليه} بمعنى به، و الفاتن المضل في هذا الموضع وكذلك فسر ابن عباس والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن الزبير على المنبر: إن الله هو الهادي والفاتن، و{من} في موضع نصب {بفاتنين} وقرأ الجمهور {صالِ الجحيم} بكسر اللام، من صال حذفت الياء للإضافة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {صالُ الجحيم} بضم اللام وللنحاة في معناه اضطراب، أقواه أنه صالون حذفت النون للإضافة، ثم حذفت الواو للالتقاء وخرج لفظ الجميع بعد لفظ الإفراد، فهو كما قال: {ومنهم من يستمعون} [يونس: 42] لما كانت من و هو من الأسماء التي فيها إبهام ويكنى بها عن أفراد وجمع ثم حكى قول الملائكة، {وما منا} وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة كأنه قال ولقد علمت كذا أو أن قولها لكذا، وتقدير الكلام ما منا ملك، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن السماء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي»، وقال ابن مسعود «موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه»، وقرأ ابن مسعود {وإن كلنا لما له مقام معلوم}، و{الصافون} معناه الواقفون صفوفًا، و{المسبحون} يحتمل أن يريد به الصلاة، يحتمل أن يريد به قول سبحان الله، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أقيمت الصلاة صرف وجهه إلى الناس فيقول لهم: عدلوا صفوفكم وأقيموها فإن الله تعالى إنما يريد بكم هدي الملائكة، فإنها تقول {وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون} ثم يرى تقويم الصفوف، وعند ذلك ينصرف ويكبر، قال الزهراوي: قيل إن المسلمين إنما اصطفوا منذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من أهل الملل غير المسلمين، ثم ذكر عز وجل مقالة بعض الكفار، وقال قتادة والسدي والضحاك فإنهم قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لو كان لنا كتاب أو جاءنا رسول لكنا من أتقى عباد الله وأشدهم إخلاصًا فلما جاءهم محمد كفروا فاستوجبوا أليم العقاب.
{فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}.
قوله تعالى: {فسوف يعلمون} وعيد محض لأنهم تمنوا أمرًا فلما جاءهم الله تعالى به كفروا واستهواهم الحسد، ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق، والكلمة قد حقت في الأزل بأن رسل الله تعالى إلى أرضه هم {المنصورون} على من ناوأهم المظفرون بإرادتهم المستوجبون الفلاح في الدارين، وقرأ الضحاك {كلماتنا} بألف على الجمع، وجند الله هم الغزاة لتكون كلمات الله هي العليا، وقال علي بن أبي طالب: جند الله في السماء الملائكة، وفي الأرض الغزاة وقوله تعالى، {فتول عنهم حتى حين} وعد للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالموادعة، وهذا مما نسخته آية السيف، واختلف الناس في المراد ب الحين، هنا، فقال السدي: الحين المقصود يوم بدر ورجحه الطبري، وقال قتادة: الحين موتهم، وقال ابن زيد: الحين المقصود يوم القيامة، وقوله تعالى: {وأبصرهم فسوف يبصرون} وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم أي سوف يرون عقبى طريقتهم، ثم قرر تعالى نبيه على جهة التوبيخ لهم على استعجالهم عذاب الله، وقرأ جمهور الناس {فإذا نَزَل بساحتهم} على بناء الفعل للفاعل أي نزل العذاب، وقرأ ابن مسعود {نُزِل بساحتهم} على بنائه للمفعول، والساحة الفناء، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من خير أو شر، وسوء الصباح أيضًا مستعمل في ورود الغارات والرزايا، ونحو ذلك ومنه قول الصارخ: يا صباحاه! كأنه يقول قد ساء لي الصباح فأغيثوني، وقرأ ابن مسعود {فبئس صباح} ثم أعاد عز وجل أمر نبيه بالتولي تحقيقًا لتأنيسه وتهممًا به، وأعاد وتوعدهم أيضًا لذلك، ثم نزه نفسه تنزيهًا مطلقًا عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات، و{العزة} في قوله: {رب العزة} هي العزة المخلوقة الكائنة، للأنبياء والمؤمنين وكذلك قال الفقهاء من أجل أنها مربوبة، وقال محمد بن سحنون وغيره: من حلف بعزة الله فإن كان أراد صفته الذاتية فهي يمين، وإن كان أراد عزته التي خلقها بين عباده وهي التي في قوله: {رب العزة} فليست بيمين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم»، وباقي الآية بين، وذكر أبو حاتم عن صالح بن ميناء قال: قرأت على عاصم بن أبي النجود فلما ختمت هذه السورة سكت فقال لي: إيه اقرأ، قلت قد ختمت، فقال كذلك فعلت على أبي عبد الرحمن وقال لي كما قلت لك، وقال لي كذلك قال لي علي بن أبي طالب وقال: «وقل آذنتكم باذانة المرسلين لتسألن عن النبإ العظيم»، وفي مصحف عبد الله {عن هذا النبإ العظيم}. اهـ.